د. محمد سليم يكتب ..الإصلاح المؤسسي للشركات القابضة والتابعة في مصر ..ركائز الحوكمة والاستدامة: البنية التشريعية المؤسسية، والتنسيقية
الإثنين 21-04-2025 00:08

استجابة للتوجيهات الرئاسية التي تؤكد ضرورة تحسين بيئة الأعمال وتوفير مناخ استثماري أكثر تنافسية، تسعى الدولة المصرية إلى تطوير الإطار المؤسسي للشركات القابضة والتابعة، لا سيما في القطاعات الاستراتيجية مثل الكهرباء، البترول، وقطاع الأعمال العام.
تأتي هذه التحركات في ظل تحديات عالمية متزايدة تشمل التغيرات المناخية، الأزمات الاقتصادية، وضغوط الطاقة والمياه، مما يحتم تبني نموذج حوكمة واستدامة فعال يُمكّن هذه الكيانات من أداء أدوارها بكفاءة، ويعزز قدرتها على جذب الاستثمارات، والوفاء بمتطلبات الحوكمة البيئية والاجتماعية (ESG).
ويتطلب هذا التحول تأسيس بنية متكاملة قائمة على ثلاث ركائز مترابطة:
بنية تشريعية تُمكّن من الحوكمة الفعلية وتضمن الحقوق والواجبات.
بنية مؤسسية تعزز الكفاءة والفصل بين السلطات والمهام.
تنسيق وطني مؤسسي يضمن تكامل الجهود وتوحد الرؤية بين الوزارات والجهات المعنية.
ولعل أبرز ما يميز هذه المرحلة هو إدراك الدولة لأهمية إصلاح الهياكل الإدارية والتشريعية، بما في ذلك فصل مهام رئيس مجلس الإدارة عن المدير التنفيذي، وتحديد واضح للمسؤوليات، بما يعزز الرقابة الداخلية، ويقوي ثقة المستثمرين في مناخ الأعمال بمصر.
أولاً: البنية التحتية: الأساس التقني للتحول المستدام
1. وزارة الكهرباء والطاقة المتجددة
التحول نحو الطاقة النظيفة: تقوم الشركات التابعة لوزارة الكهرباء بتحديث البنية التحتية للشبكات الكهربائية لدعم مشروعات الطاقة المتجددة (مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح) على مستوى شركات النقل والتوزيع.
الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء (IoT): استخدام التقنيات الحديثة والشبكات الذكية لتحسين كفاءة توزيع الكهرباء وتقليل الفقد من خلال مراكز التحكم القومى والاقليمى ومراكز التحكم بشركات التوزيع.
تخزين الطاقة: تطوير بنية تحتية لتخزين الطاقة لدعم استقرار الشبكة الكهربائية.
2. وزارة البترول والثروة المعدنية
التحول الأخضر: الاستثمار في مشاريع الهيدروجين الأخضروتقنيات التقاط الكربون.
تحديث البنية التحتية للنقل والتخزين: تقليل الانبعاثات من خلال تحديث خطوط الأنابيب ومرافق التكرير.
3. وزارة قطاع الأعمال العام
تعمل الوزارة على تطوير المصانع التابعة لها (مثل مصانع الحديد والصلب، الغزل والنسيج، الأسمدة)، من خلال إدخال تقنيات تحسين كفاءة الطاقة وتقليل الانبعاثات، وربط خطوط الإنتاج ببرامج رقابة بيئية ومؤشرات أداء مستدام.
وفي مجال النقل والإمداد، بدأ تنفيذ مشاريع لوجستيات خضراء تهدف إلى تقليل استخدام وسائل النقل التقليدية المرتفعة الانبعاثات، والاستعانة بوسائل نقل صديقة للبيئة في سلاسل الإمداد.
ثانياً: البنية التشريعية: التمكين القانوني لحوكمة الشركات والاستدامة
تلعب التشريعات دورًا أساسيًا في دعم توجه الدولة نحو التنمية المستدامة، حيث تم إصدار عدد من القوانين المنظمة للحوكمة والشفافية في الشركات العامة والخاصة، على سبيل الكثال لا الحصر:
قانون الشركات رقم 159 لسنة 1981 وتعديلاته، الذي يرسخ مبادئ حوكمة الشركات وحقوق المساهمين.
قانون الاستثمار الموحد رقم 72 لسنة 2017، الذي يحفز الاستثمار ويُسهل دخول رؤوس الأموال الأجنبية.
قانون الكهرباء رقم 87 لسنة2015، فتح المجال أمام القطاع الخاص للعمل في إنتاج وبيع الكهرباء، مع فصل الأنشطة (التوليد، النقل، التوزيع)، وتعزيز دور جهاز تنظيم مرفق الكهرباء وحماية المستهلك وتحرير سوق الطاقة.
قانون البيئة رقم 4 لسنة 1994 وتعديلاته:
أرسى قواعد مهمة لربط المشروعات الجديدة بتقييم الأثر البيئي، بما يعزز الربط بين التنمية والحفاظ على الموارد.
تعديلات قانون قطاع الأعمال العام رقم 203 لسنة 1991: أُدخلت تعديلات بموجب القانون رقم 185 لسنة 2020 لتعزيز قواعد الحوكمة، بما في ذلك فصل السلطات داخل الشركات، وتحديد مسؤوليات مجلس الإدارة والإدارة التنفيذية.
المعهد القومي للحوكمة والتنمية المستدامة: أصدر تقارير تسلط الضوء على أداء مصر في مؤشرات الحوكمة الدولية، وتقديم توصيات لتحسين الأداء المؤسسي.
ومع ذلك، تظل الحاجة قائمة إلى مراجعة بعض النصوص الخاصة بتعارض المصالح، وتعزيز الشفافية في تعيين القيادات، وإلزام الشركات القابضة والتابعة بالإفصاح السنوي عن تقارير الاستدامة (ESG Reports)، وهو ما بدأت بعض الشركات الكبرى تنفيذه بالفعل.
أفضل الممارسات العالمية:
اعتماد أطر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD Principles of Corporate Governance.
الربط بين الحوافز المالية والإفصاح البيئي والاجتماعي.
القوانين الملزمة في أوروبا لإفصاح الشركات الكبرى عن بصمتها الكربونية.
ثالثا: البنية المؤسسية – هى الاساس فى تنفيذ الاستراتيجية
وجود تشريعات فعّالة لا يكفي بدون مؤسسات قادرة على تنفيذها بكفاءة، نتناول منها الاتى:
إعادة هيكلة الشركات نحو استدامة طويلة الأمد
تمثل البنية المؤسسية حجر الزاوية في تحقيق الحوكمة الفعالة، واسمحوا لى بتناول هذا الموضوع الشائك وتوضيح أبرز التحديات الحالية :
ضعف استقلالية مجالس الإدارات وازدواجية في الأدوار:
دمج منصب رئيس مجلس الإدارة (الجهة الاشرافية) مع العضو المنتدب (الجهة التنفيذية)، ما يُضعف من التوازن والرقابة داخل الهيكل الإداري حيث يؤدي الجمع بين المنصبين إلى ضعف الرقابة وتركيز السلطة في شخص واحد ويقوم كذلك باختيار الاعضاء حسب رغبته، مما يحد من استقلالية مجلس الإدارة ويفتح الباب لتعارض المصالح .
يُعيق هذا الدمج تطبيق مبادئ الحوكمة السليمة مثل الفصل بين السلطات، والتقييم المستقل للأداء.
تداخل عضوية مجالس الإدارة: عندما يقوم عضو مجلس ادارة لعدد من الشركات مما يصعب ضمان الحياد والشفافية في اتخاذ القرارات، خاصة في التعاقدات وتوزيع الموارد.
تداخل الأدوار:
عندما يشغل رئيس مجلس ادارة الشركة المالكة منصب العضو المنتدب، بالإضافة إلى رئاسة مجلس ادارة شركة استشارية تقدم خدمات للشركة المالكة وايضا يشغل عضوية مجالس ادارة عدد من الشركات التى تقوم بالبيع والتوريد للشركة المالكة ، مما يخلق تضاربًا في المصالح وتغول السلطة، ويُضعف من آليات الرقابة.
تضارب المصالح وضعف التنافسية في إسناد المشروعات
لا يخفى على المتابعين للقطاع أن بعض الممارسات غير التنافسية قد أضعفت من عدالة الفرص بين المكاتب الاستشارية، خصوصًا في قطاع الكهرباء.
تشير الوقائع إلى أن مكتبًا استشاريًا بعينه حصل على حصة كبيرة من المشروعات داخل مصر وخارجها، نتيجة لعلاقات وثيقة مع مسؤولين سابقين وحاليين في مواقع صنع القرار.
بالتوازي، شهدت المكاتب الاستشارية الأخرى تراجعًا في فرص التعاقد أو المشاركة، لنفس السبب.
تغليب البُعد السياسي على المهني والفني:
بعض القرارات الهامة تتأثر بالاعتبارات السياسية، وليس بمعايير الجدوى الاقتصادية.
يؤثر ذلك على قدرة الشركات على التفاعل السريع مع المتغيرات السوقية.
نماذج متميزة للإصلاح المؤسسي:
يجدر الإشادة بأن بعض شركات قطاع الأعمال العام قد طبّقت هذا الفصل المؤسسي، حيث يُفصل بين رئيس مجلس الإدارة (الدور الإشرافي) وبين العضو المنتدب (الإدارة التنفيذية)، مما يوفّر نموذجًا يُمكن تعميمه على باقي القطاعات. وهو ما يتماشى مع توصيات IFC وWorld Bank.
تفعيل وحدات حوكمة داخلية داخل الشركات الكبرى، على غرار النموذج السعودي الذي أسس إدارات مستقلة للحوكمة والمخاطر.
أفضل الممارسات العالمية:
سنغافورة أنشأت هيئة وطنية للطاقة المستدامة تجمع بين التخطيط، التمويل، التنفيذ، والرقابة.
المغرب أسس الوكالة المغربية للطاقة المستدامة MASEN كشركة مملوكة للدولة تقود تنفيذ مشاريع الطاقة النظيفة.
ألمانيا، ترتكز التشريعات على قانون الطاقة المتجددة (EEG) الذي يضمن تسعير عادل للطاقة المنتجة من مصادر متجددة.
الهند، تم تأسيس الهيئة المركزية للطاقة المتجددة (IREDA) بدعم تشريعي قوي يسمح بتمويل المشروعات المستدامة بفوائد مدعومة.
السويد، يُمنع قانونًا الجمع بين رئاسة مجلس إدارة شركة حكومية وبين أي منصب تنفيذي في شركة أخرى ترتبط بها تجاريًا.
كوريا الجنوبية، يتم تقييم أداء شركات الطاقة الحكومية على أساس مؤشرات الاستدامة والحوكمة، ويُربط تقييم القيادات بهذه المؤشرات.
الحلول المقترحة لتعزيز البنية المؤسسية
1. فصل السلطات وتعزيز الاستقلالية
الفصل بين رئاسة مجلس الإدارة والمنصب التنفيذي (CEO) لضمان توازن السلطات.
تحديد فترة زمنية قصوى لتولي المناصب القيادية لتجنب تركز النفوذ حيث هناك من استمر لاكثر من اثنى عشر عاما .
منع ازدواجية العضوية في مجالس إدارة الشركات المترابطة تجاريًا.
2. تعزيز الشفافية والحوكمة
إلزام الشركات القابضة والتابعة بنشر تقارير ESG بشكل دوري.
إنشاء لجان مستقلة للمراجعة والرقابة على القرارات الاستثمارية.
تفعيل دور المساهمين بما في ذلك القطاع الخاص في الرقابة على الأداء.
رابعا: التنسيق الوطني – الربط بين التشريعات والمؤسسات
التحدي الأكبر لا يكمن في وجود التشريعات أو المؤسسات، بل في التنسيق الفعّال بين الجهات.
الركيزة التنسيقية: توحيد الرؤية وتكامل الجهود
تتطلب التنمية المستدامة تنسيقًا فعّالًا بين الجهات الحكومية والقطاع الخاص، وهو ما يُعد أحد أبرز التحديات في الوقت الحالي. تتعدد الخطط والمبادرات بين وزارات الكهرباء، والبترول، وقطاع الأعمال العام، ولكنها لا تتكامل أحيانًا على المستوى التنفيذي أو الزمني.
فرص التحسين:
توحيد مؤشرات الأداء والاستدامة عبر جميع الشركات القابضة والتابعة بالوزارات (الكهرباء، البترول، قطاع الاعمال).
تفعيل دور الهيئة العامة للرقابة المالية، والرقابة الادارية، والجهاز المركزى للمحاسبات ، والجهات المانحة الدولية في تمويل التحول المؤسسي.
إطلاق منصة وطنية موحدة للإفصاح ESG لجميع الشركات الحكومية الكبرى، بالتنسيق مع مركز معلومات قطاع الأعمال العام. (https://www.bsic.gov.eg/)
نموذج ناجح: تجربة مبادرة “مصر تستطيع بالصناعة” في تنسيق الجهود بين وزارات الكهرباء والتجارة والصناعة والتعليم الفني، لتوطين المكون المحلي وربط الإنتاج بالمشروعات القومية.
تحقيق الاستدامة في مصر يتطلب:
مراجعة دور المؤسسات القائمة وتفعيل التنسيق بينها.
إصدار تشريعات داعمة لتوسيع دور القطاع الخاص والمستثمرين الدوليين.
تأسيس كيانات متخصصة ومستقلة في الطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة، تكون ذراعًا تنفيذية للدولة.
وضع إطار مالي مرن، يشمل الحوافز، التعريفات المشجعة، وآليات التمويل الأخضر.
إنشاء آلية مستقلة لمراجعة ومراقبة التعاقدات الاستشارية، تضمن الشفافية، وتُفعّل مبدأ تكافؤ الفرص، وتُشجع على التنافس المهني بما يدعم التنمية المستدامة ويدعم ثقة المستثمر المحلي والدولي.
المستقبل يتطلب تحوّلًا من التفكير القطاعي إلى نهج وطني شمولي، يجمع بين الرؤية والاستراتيجية والتنفيذ، في سبيل تحقيق أمن الطاقة، النمو الاقتصادي، والعدالة البيئية.
خامسا: الخاتمة – رسالة ثقة للمستثمرين والمجتمع
إن بناء منظومة حوكمة مؤسسية فعّالة ليس ترفًا تنظيميًا، بل هو ضرورة اقتصادية وأمن قومي تنموي، خاصة في ظل سعي الدولة نحو استقطاب الاستثمارات النوعية، وتفعيل شراكات التنمية المستدامة مع المؤسسات الدولية.
إن التحديات التي تواجه الشركات القابضة والتابعة – من تداخل الصلاحيات إلى تضارب المصالح – لا يمكن تجاوزها إلا بإصلاح شامل للبنية المؤسسية، يرتكز على:
الفصل بين الأدوار والسلطات؛
تفعيل المساءلة والشفافية؛
وتحقيق التناغم بين الجهات الحكومية ضمن رؤية وطنية موحدة.
نحو نموذج مصري تنافسي في المنطقة
تُشكّل وزارات الكهرباء، البترول، وقطاع الأعمال العام نقاط ارتكاز لاقتصاد الدولة، وتطبيق الحوكمة المؤسسية في شركاتها القابضة والتابعة يمثل تحولًا نوعيًا سيمكن مصر من:
تعزيز قدرتها على الوصول إلى التمويلات الدولية الخضراء.
تحسين أداء الشركات ورفع مساهمتها في الناتج المحلي.
استعادة ثقة المستثمر المحلي والأجنبي في نزاهة بيئة الأعمال.
تقديم نموذج يُحتذى به إقليميًا في حوكمة القطاع العام وتعظيم الأصول الوطنية.
الرسالة للمستثمرين وصناع القرار:
تتحرك مصر بخطى ثابتة نحو بناء مناخ استثماري أكثر تنافسية وشفافية، مدعومًا بإصلاح مؤسسي جاد، وإرادة سياسية واضحة، واستراتيجيات قائمة على ممارسات عالمية فعالة.
وإذا ما تم استكمال التناغم بين البنية التشريعية، والهياكل المؤسسية، وأدوات التنسيق الوطني، فإن مصر ستكون في موقع ريادي بين الدول الناشئة القادرة على جذب الاستثمارات النوعية، وتحقيق نمو اقتصادي أخضر ومستدام.