رئيس التحرير
ads

د. محمد سليم يكتب ..التفويض والتمكين وصناعة قيادات الصف الثاني: أساس الإصلاح المؤسسي والاستدامة

الخميس 24-04-2025 16:17

 

 

منذ مشاركتي في دورة إعداد القادة عام 1999، ظل مفهوم التفويض (Delegation) والتمكين (Empowerment) من أكثر المبادئ الإدارية التي شدّت انتباهي وأثرت في رؤيتي القيادية. ورغم بساطتهما الظاهرة، فإنهما يتطلبان وعيًا عميقًا وفهمًا دقيقًا لطبيعة السلطة، والمسؤولية، وبناء فرق العمل.

وربما ما رسخ هذه القناعة هو إدراكي المبكر بأن كثيرًا من القيادات – خاصة في الهياكل الحكومية – تخشى التفويض بدعوى فقدان السيطرة، هذا الخوف، وإن بدا مبررًا أحيانًا، غالبًا ما يؤدي إلى نتائج عكسية كالجمود الإداري وتقادمه، ومركزية القرار، وتعطيل نمو الكفاءات داخل المؤسسات.

 

لماذا التفويض والتمكين؟

تحقيق الكفاءة التشغيلية:

لا يمكن لقائد واحد أن يتابع كل التفاصيل، وغياب التفويض يعطل الإنجاز ويربك المؤسسة.

بناء صف ثاني حقيقي:

التمكين ليس منحة، بل هو استثمار في الجيل التالي من القادة الذين سيحملون رؤية المؤسسة مستقبلًا.

دعم الاستدامة المؤسسية:

المؤسسات التي تعتمد على شخص واحد تنهار بانسحابه أو تغييره؛ بينما المؤسسات المؤسسية تستمر فى الاداء.

 

الواقع الحالي في الشركات القابضة والتابعة

في سياق قراءتي وتحليلي المستمر لبيئة العمل داخل الشركات القابضة والتابعة في مصر، يتضح بجلاء أن السلطة التنفيذية تتركز غالبًا في يد رئيس مجلس الإدارة أو العضو المنتدب ، ويُعد الجمع بين منصب رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب، إلى جانب شغل عضوية مجالس إدارات لشركات ذات مصالح متبادلة لنفس القيادة، نموذجًا صارخًا لتغوّل السلطة.

هذه الممارسات لا تُفرغ المؤسسات من أدوات الحوكمة فحسب، بل تُعبّر عن تجاهل ممنهج لتمكين الصف الثاني من القيادات، وتُكرّس ثقافة احتكار القرار الإداري على حساب الكفاءة والتجديد

هذا التمركز في السلطة لا يعكس فقط ضعف التفويض، بل هو تغوّل إداري يُقوّض مفاهيم التمكين، ويكرّس التبعية في بيئة العمل، ويُضعف ثقة الكفاءات في قدرتها على التقدم أو التأثير.

وقد أشرت إلى هذه الإشكالية تفصيلًا في مقال سابق بعنوان “إصلاح البنية المؤسسية للشركات القابضة والتابعة في مصر”، حيث أكد ت أن غياب الفصل بين السلطات، وعدم وجود صف ثانٍ مدرب ومؤهل، من أبرز معوّقات الاستدامة الحقيقية في المؤسسات العامة.

مخاوف القيادة… وحقيقة السيطرة

من المفاهيم المغلوطة الشائعة أن التفويض يعني التنازل عن السلطة أو فقدان السيطرة. بينما الحقيقة أن:

التفويض يُظهر قوة القيادة لا ضعفها؛ لأنه يُعبر عن ثقة القائد في فريقه.

التمكين لا يعني الفوضى، بل هو نظام مؤسسي له آليات للرقابة والتقييم.

القائد الذي يُفوض هو من يصنع قائدًا جديدًا… لا تابعًا دائمًا.

 

غياب التفويض داخل الإدارات العليا:

الكثير من القيادات تحتفظ بالصلاحيات التنفيذية والمالية والفنية دون توزيعها على المستويات الوسطى، مما يؤدي إلى:

بطء في اتخاذ القرار

تعطيل المبادرات من الإدارات التخصصية

ضعف الثقة بين المستويات الإدارية

عدم الاستثمار في القيادات الواعدة:

رغم وجود عناصر شابة ومؤهلة في العديد من الشركات، إلا أن غياب التمكين المؤسسي يجعل هذه الكفاءات في وضع المتفرج، بلا دور حقيقي أو مسار تطوير مهني واضح.

 

الطريق إلى التمكين المؤسسي

من أجل خلق بيئة عمل مرنة ومؤسسية، تحتاج الشركات القابضة وشركاتها التابعة إلى:

إعادة تعريف الصلاحيات والمسؤوليات داخل الهيكل الإداري، وتحديد خطوط واضحة للتفويض بين المستويات المختلفة.

تحديد مدة شغل المناصب القيادية: وضع سقف زمني لتولي المناصب التنفيذية، حيث سُجلت حالات تجاوزت 12 عامًا في ذات المنصب، وهو ما يُضعف التجديد ويُكرس مراكز النفوذ

استراتيجية متكاملة لصناعة قيادات الصف الثاني: تتضمن التدريب، التقييم، الإشراك في اتخاذ القرار، ومنح الصلاحيات التدريجية

نشر ثقافة الثقة والحوكمة الداخلية:

من خلال ورش العمل، والممارسات اليومية، والقدوة القيادية في أعلى المستويات.

تطبيق نماذج ادارية ناجحة لضبط مستويات التمكين حيث لا يكون هناك لا مركزية مفرطة، ولا احتكار للقرار.

تشجيع القيادة بالمشاركة (Participative Leadership)، وتفعيل لجان فنية واستشارية تضم قيادات الصف الثاني في صنع القرار.

ربط التفويض بمؤشرات أداء واضحة (KPIs)، تضمن المتابعة والتقييم دون المساس بالثقة.

 

أدوات التحول الرقمي لتعزيز التفويض والتمكين وتقييم الأداء

لم يعد من الممكن تحقيق تفويض وتمكين فعالين دون دعم تقني. إن أدوات التحول الرقمي أصبحت عنصرًا أساسيًا في ترسيخ الحوكمة الحديثة وتحقيق الشفافية.

أبرز الأدوات المؤسسية الرقمية:

أنظمةERP (تخطيط الموارد للمؤسسات) :(Enterprise Resource Planning) هي منصات رقمية متكاملة تُستخدم لإدارة جميع موارد وأنشطة المؤسسة – مثل الموارد البشرية، المالية، المشتريات، العمليات، والصيانة – في نظام واحد مترابط.توفّر قاعدة بيانات موحدة وشفافة، وتُمكّن من تفويض الصلاحيات تلقائيًا وفق المهام الوظيفية.

أدوات تقييم الأداء الرقمية (KPIs Dashboards):

تُساعد في قياس الأداء المهني بدقة، وتدعم قرارات التمكين والترقية بناءً على نتائج موثوقة.

أنظمة الموافقات والتوقيع الإلكتروني:

تُتيح تسريع الإجراءات دون الرجوع لكل تفصيل، مما يُفعل التفويض دون المساس بالرقابة.

منصات التدريب الرقمية LMS (Learning Management Systems) هى ادوات تكنولوجية تُمكّن المؤسسات من تقديم برامج تدريب وتطوير للموظفين بشكل إلكتروني، منظم وقابل للقياس تُمكّن الصف الثاني من تطوير نفسه ذاتيًا دون الحاجة للتوقف عن العمل .

أدوات ذكاء الأعمال والتحليلات (BI & Analytics):

تُساعد في اتخاذ قرارات استراتيجية مبنية على البيانات، وهو ما يُرسخ الثقة في تمكين المستويات الوسطى.

 

خاتمة: تمكين الكفاءات هو حماية للمؤسسات

إن المؤسسات المستدامة هي تلك التي تُحسن بناء البشر قبل الأنظمة. والتفويض والتمكين هما حجر الزاوية في هذا البناء، خاصة في المؤسسات الحكومية التي ترتبط بالمصلحة العامة.

المؤسسات الحديثة لا تُدار بالتحكم، بل بالثقة والتوزيع الرشيد للسلطة، وكلما زادت قدرة القائد على بناء قيادات بديلة، زادت قوة المؤسسة ومناعتها أمام التغيرات. التفويض ليس ضعفًا، والتمكين ليس فوضى إن صناعة قائد جديد أهم من إصدار قرار لحظي ، والصف الثاني ليس تهديدًا… بل هو ضمانة للاستمرار والتجدد

 

ads

اضف تعليق